فصل: شروط العلة المتفق عليها أربعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.شروط العلة:

الأصل الذي ورد النص بحكمه قد يكون مشتملا على عدة أوصاف وخواص، وليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، بل لابد في الوصف الذي يعلل به حكم الأصل من أن تتوفر فيه جملة شروط. وهذه الشروط استمدها الأصوليين من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مراعاة تعريف العلة، ومن الغرض المقصود من التعليل وهو تعديه الحكم إلى الفرع. وبعض هذه الشروط اتفقت على اشتراطا كلمة الأصوليين، وبعضها لم تفق عليها كلمتهم، ونحن نقتصر على بيان الشروط المتفق عليها.

.شروط العلة المتفق عليها أربعة:

أولها: أن تكون وصفا ظاهرا: ومعنى ظهوره أن يكون محسا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة، لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع فلابد أن تكون أمرا ظاهرا، يدرك بالحس في الخمر، ويتحقق بالحس من وجوده في نبيذ آخر مسكر، والقدر مع اتحاد الجنس اللذين يدركان بالحس في الأموال الربوية الستة، ويتحقق بالحس من وجودهما في مال آخر من المقدرات.
لهذا لا يصح التعليل بأمر خفي لا يدرك بحاسة ظاهرة لأنه لا يمكن التحقق من وجوده ولا عدمه فلا يعلل ثبوت النسب بحصول نطفة الزوج في رحم زوجته، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي عقد الزواج الصحيح. ولا يعلل نقل الملكية في البديلين بتراضي المتابعين بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول. ولا يعلل بلوغ الحلم بكمال العقل بل يعلل بمظنته الظاهرة، وهي بلوغ 15 سنة أو ظهور علامة من علامات البلوغ قبلها.
وثانيها: أن يكون وصفا منضبطا: ومعنى انضباطه أن تكون له حقيقة معينة محدودة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها أو بتفاوت يسير، لأن أساس القياس تساوي الفرع والأصل في علة حكم الأصل، وهذا التساوي يستلزم أن تكون العلة مضبوطة محدودة حتى يمكن الحكم بأن الواقعتين متساويتان فيها، كالقتل العمد العدوان من الوارث لمورثه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في قتل الموصى له للموصي، والاعتداء في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في استئجار الإنسان على استئجار أخيه.
لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف المرنة غير المضبوطة، التي تختلف اختلافا بينا باختلاف الظروف والأحوال والأفراد، فلا تعلل إباحة الفطر في رمضان للمريض أو المسافر بدفع المشقة بل مظنتها وهو السفر أو المرض.
وثالثها: أن تكون وصفا مناسباً: ومعنى مناسبته أن يكون مظنة لتحقيق حكمة الحكم، أي أن ربط الحكم به وجوداً وعدماً من شأنه أن يحقق ما قصده الشارع بتشريع الحكم من جلب نفع أو دفع ضرر، لأن الباعث الحقيقي على تشريع الحكم والغاية المقصودة منه هو حكمته، ولو كانت الحكمة في جميع الأحكام ظاهرة مضبوطة لكانت هي علل الأحكام، لأنها هي الباعثة على تشريعها، ولكن لعدم ظهورها في بعض الأحكام وعدم انضباطها في بعضها، أقيمت مقامها أوصاف ظاهرة مضبوطة ملائمة ومناسبة لها. وما ساغ اعتبار هذه الأوصاف عللا للأحكام ولا أقيمت مقام حكمها إلا أنها مظنة لهذا الحكم، فإذا لم تكن مناسبة ولا ملائمة لم تصلح علة للحكم. فالإسكار مناسب لتحريم الخمر لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول، والقتل العمد العدوان مناسب لإيجاب القصاص لأن في بناء القصاص عليه حفظ حياة الناس، والسرقة مناسبة لإيجاب قطع يد السارق والسارقة لأن في بناء القطع عليها حفظ أموال الناس.
لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف غير المناسبة، وتسمى بالأوصاف الطردية أو الاتفاقية التي لا تعقل علاقة لها بالحكم، ولا بحكمته كلون الخمر، أو كون القاتل عمداً عدواناً مصري الجنس، أو كون السارق أسمر اللون، أو كون المفطر عمداً في رمضان أعرابيا. ولا يصح التعليل بأوصاف مناسبة بأصلها إذا طرأ عليها في بعض الجزئيات بمناسبتها، وجعلها قطعا غير مظنة لحكمة التشريع، فصيغة البيع من المكره لا تصح علة لنقل الملكية، وزوجية من ثبت عدم تلاقيهما من حين العقد لا تصل علة لثبوت النسب، وبلوغ من بلغ مجنوناً لا يصلح علة لزوال الولاية النفسية عنه، لأن البيع والزواج والبلوغ في هذه الجزئيات ليست مظنة ولا مناسبة.
رابعها: أن لا تكون وصفا قاصرا على الأصل: ومعنى هذا أن تكون وصفا يمكن أن يتحقق في عدة أفراد ويوجد في غير الأصل، لأن الغرض المقصود من تعليل حكم الأصل تعديته إلى الفرع، فلو علل بعلة لا توجد في غير الأصل لا يمكن أن تكون أساسا للقياس. ولهذا لما عللت الأحكام التي هي من خصائص الرسول، بأنها لذات الرسول لم يصح فيها القياس، فلا يصح تعليل تحريم الخمر بأنها نبيذ العنب تخمر، ولا تعليل تحريم الربا في الأموال الربوية الستة بأنها ذهب أو فضة.
وبعض الأصوليين خالف في اشتراط هذا الشرط في العلة. وينبغي أن لا يكون في اشتراط هذا الشرط خلاف، ما دام المقصود هو شروط العلة التي هي ركن القياس وأساسه، لأنه لا تكون العلة أساسا للقياس إلا إذا كانت متعدية أي أمراً غير خاص بالأصل ويمكن وجوده في غيره.

.أقسام العلة:

تقسيم العلة من ناحية اعتبار الشارع إياها وعدمه:
قدمنا في بحث شروط العامة أنه ليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، وأنه لا يصح التعليل بوصف إلا إذا كان ظاهرا منضبطا مناسبا. وبينا أن المراد بمناسبة الوصف للحكم أن يكون مظنة لحكمته، بحيث يكون بناء الحكم عليه وربطه به من شأنه أن يحقق المصلحة التي شرع الحكم من أجلها. ونقرر هنا أنه للاحتياط يشترط أن يكون الوصف المناسب مع ظهوره وانضباطه قد اعتبره الشارع علة بأي نوعه من أنواع الاعتبار.
ومن ناحية اعتبار الشارع للمناسب وعدم اعتباره إياه، قسّم الأصوليين الوصف المناسب إلى أقسام أربعة:
المناسب المؤثر، والمناسب الملائم، والمناسب المرسل، والمناسب الملغي.
وبنوا الحصر في هذه الأقسام على أن الوصف المناسب إذا اعتبره الشارع بعينه علة لحكم بعينه فهو المناسب المؤثر، وإذا اعتبره الشارع علة بنوع آخر من أنواع الاعتبار الثلاثة التي سيأتي بيانها فهو المناسب الملائم، وإذا لم يعتبره الشارع بأي نوع من أنواع الاعتبار ولم يبغ اعتباره ولم يرتب حكما على وفقه، فهو المناسب المرسل، وإذا ألغي الشارع اعتباره فهو المناسب الملغي. وقد اتفقوا على صحة التعليل بالمناسب المؤثر وبالمناسب الملائم، وعلى عدم صحة التعليل بالمناسب الملغي، واختلفوا في صحة التعليل بالمناسب المرسل. وهذا بيان الأقسام الأربعة وأمثلتها:
1- المناسب المؤثر: هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكماً على وفقه، وثبت بالنص أو الإجماع بعينه علة للحكم، الذي رتب على وفقه، ومثاله قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، الحكم الثابت بهذا النصل هو إيجاب اعتزال النساء في المحيض، وقد رتب على أنه أذى، وصوغ النص صريح في أن علة هذا الحكم هو الأذى، فالأذى لإيجاب اعتزال النساء في المحيض وصف مناسب مؤثر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل» الحكم الثابت بهذا النص هو منع القاتل من إرث مورثه، وقد رتب على أنه قاتل، وصوغ النص يومئ إلى أن علة هذا المنع هو القتل، لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بأن مصدر الاشتقاق هو العلة، فالقتل للمنع من الإرث وصف مناسب مؤثر.
وقوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، الحكم الثابت بهذا النص: أن من لم يبلغ الحلم من اليتامى ثبت الولاية على ماله لوليه، وقد ثبت بالإجماع أن علة ثبوت الولاية المالية على الصغير صغره، فالصغر لثبوت الولاية المالية وصف مناسب مؤثر.
فكل حكم شرعي رتب على وصف مناسب في محله ودل نص أو إجماع على أن هذا الوصف هو علة هذا الحكم، فهذا الوصف مناسب مؤثر، وهذا أعلى درجات اعتبار الوصف المناسب.
2- المناسب الملائم: هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وقفه، ولم يثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لنفس الحكم الذي رتب على وفقه، ولكن ثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه عله لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه، أو اعتبار وصف من جنسه علة لهذا الحكم. فمتى كان الوصف المناسب معتبرا بنوع من هذه الأنواع الثلاثة للاعتبار كان التعليل به موافقا تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله، ولهذا يسمى المناسب الملائم أي الموافق تصرفات الشارع، وقد اتفق على صحة التعليل به وبناء القياس عليه.
مثال الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: الصغر لثبوت الولاية للأب في تزويج الصغيرة، وذلك أنه ثبت بالنص ثبوت الولاية للأب في تزويج بنته البكر الصغيرة. فالحكم وهو ثبوت الولاية رتب على وفق البكارة والصغر، ولم يدل نص أو أإجماع على أن العلة لثبوت هذه الولاية البكارة أو الصغر، لكن ثبت بالإجماع اعتبار الصغر علة للولاية على مال الصغيرة، والولاية على النفس هو ولاية التزاوج من جنس واحد، وهو الولاية. فكأن الشارع لما اعتبر الصغر علة للولاية على مال الصغيرة اعتبر الصغر علة للولاية عليها بأنواعها، ومن أنواع الولاية: الولاية على تزويجها. فعلة ثبوت الولاية للأب على تزويج البكر الصغيرة الصغر، وبما أن الصغر يتحقق في الثيب الصغيرة فتقاس على البكر الصغيرة وتثبت عليها ولاية التزويج، وتقاس عليها أيضا من في حكم الصغيرة وهي المجنونة والمعتوهة.
ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفا من جنسه علة للحكم الذي رتب على وفقه: المطر لإباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد، وذلك أنه ثبت بالنص إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر. فالحكم وهو إباحة الجمع بين الصلاتين رتب على وفق حال المطر، ولم يدل نص ولا إجماع على أن المطر هو علة هذا الحكم، لكن دل نص آخر على إباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد حال السفر. وثبت بالإجماع أن علة إباحة الجمع السفر، والسفر والمطر نوعان من جنس واحد، لأن كلا منهما عارض مظنة الحرج والمشقة، فكأن الشارع لما اعتبر السفر علة لإباحة الجمع بين الصلاتين اعتبر كل ما هو من جنسه علة لهذه الإباحة، فعلة إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر: المطر، ويقاس عليه حال الثلج والبرد.
ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر وصفا من جنسه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: تكرر أوقات الصلوات في الليل والنهار لسقوط قضاء الصلاة عن الحائض. وذلك أنه ثبت بالنص أن الحائض في أثناء حيضها لا تصوم ولا تصلى، وأن عليها إذا طهرت أن تقضي الصوم دون الصلاة. فالحكم وهو سقوط قضاء الصلوات عنها لم يدل نص على علته، ولكن رُئي أن تكرر أوقات الصلوات ليلا ونهارا مظنة الحرج والمشقة في أدائها، والشارع اعتبر أشياء كثيرة هي مظان الحرج عللا لأحكام كثيرة هي رخص وتخفيف عن المكلف، كالمرض والسفر لإباحة الفطر في رمضان، والسفر لقصر الصلاة الرباعية، وعدم الماء للتيمم، ودفع الحاجة للسلم والعرايا، فكأن الشارع اعتبر كل نوع من أنواع مظان الحرج علة لكل نوع من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وتكرر أوقات الصلوات من أنواع مظان الحرج، وسقوط قضائها عن الحائض من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف.
وهذا النوع من أنواع الاعتبار يفسح المجال للتعليل بالأوصاف المناسبة، لأن كل وصف مناسب رتب الشارع الحكم على وفقه، لا يخلو من أن يكون أي وصف من جنسه اعتبره الشارع علة لحكم من جنس حكمه، وصحة التعليل بالمناسب بناء على اعتبار جنسه في جنس الحكم تفتح أبواب القياس بسعة، لأن مآل هذا: أن الشارع إذا اعتبر وصفا هو مظنة الحرج علة لحكم فيه تخفيف، صح اعتبار أي وصف آخر من مظان الحرج علة لأن حكم آخر فيه تخفيف.
ولا يتصور أن يوجد وصف مناسب رتب الشارع حكما على وفقه، ولم يعتبره بأي نوع من أنواع الاعتبار السابقة بل لابد أن الشارع اعتبره ولو باعتبار جنسه علة لجنس حكمه. وعلى هذا فكل وصف مناسب رتب الشارع حكما على وفقه، فهو إما مؤثر، وإما ملائم.
وأما ما سماه بعض الأصوليين بالمناسب الغريب، فال يتصور وجوده، لأنه عرّفوه بالوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وفقه، ولم يثبت اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، وقد بينا أنه مع السعة في اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم لا يوجد مناسب غريب، ولهذا لم يذكر صاحب جمع الجوامع المناسب الغريب، واقتصر على تقسيم المناسب إلى مؤثر وملائم ومرسل، وهذا الذي اخترناه.
3- المناسب المرسل: هو الوصف الذي لم يرتب الشارع حكما على وفقه ولم يدل دليل شرعي على اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، ولا على إلغاء اعتباره. فهو مناسب أي يحقق مصلحة؛ ولكنه مرسل أي مطلق عن دليل اعتبار ودليل إلغاء، وهذا هو الذي يسمى في اصطلاح الأصوليين المصلحة المرسلة.
ومثاله: المصالح التي بنى عليها الصحابة تشريع وضع الخراج على الأرض الزراعية، وضرب النقود، وتدوين القرآن ونشره، وغير هذا من المصالح التي شرعوا الأحكام بناء عليها، ولم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغاء اعتبارها.
وهذا المناسب المرسل اختلف العلماء في تشريع الأحكام بناء عليه، فمنهم من نظر إلى ناحية أن الشارع لم يعتبره فقال: لا يبني عليه تشريع، ومنهم من نظر إلى أن الشارع لم يلغ اعتباره فقال: يبني عليه التشريع، وسيأتي بحثه مفصلا.
4- المناسب الملغي: وهو الوصف الذي يظهر أن في بناء الحكم عليه تحقيق مصلحة، ولم يرتب الشارع حكما على وفقه ودل الشارع بأي دليل على إلغاء اعتباره.
مثل: تساوي الابن والبنت في القرابة لتساويهما في الإرث، ومثل إلزام المفطر عمداً في رمضان بعقوبة خاصة لردعه.
وهذا لا يصح بناء تشريع عليه، وسيأتي بحثه مفصلا.